طباعة هذه الصفحة

 كـم أتشوق مـرة أخــرى ..

بقلم: محمد بوعزارة


خلال تسعينياتِ القرن الماضي كتبتُ مقالًا في مجلة «الشاشة الصغيرة» التابعة لمؤسسة التلفزيون التي كنتُ أتولى إدارتها بعنوان :
 كم اشتقت ..

كانت الجزائر في ذلك الوقت العصيب تعيشُ وضعًا صعبًا بسبب الإرهاب الذي تكالب على الشعب و الوطن، و مع ذلك لم يستطعِ الإرهاب أن يَحْجِر علينا في بيوتنا ، ولا أن يقهرنا، و لم يتمكن من أن يقتل فينا إرادةَ الحب و الحياة و البقاء و التحدي .
فقد عبَّر ذلك المقال الذي كتبته عام 1995 بصدق عن المشاعر التي كانت تختلج صدور مختلف الجزائريين و الجزائريات في ذلك الزمن العصيب .
و أختصر لكم بعض ما جاء فيه :
 اشتقت أن أرى المدينة ، أية مدينة في وطني عرسا ثقافيا دائم الأفراح ، و أن أدخل مقهيً، في أي مدينة من وطني ، و لا أخاف من ورائي ، و لا من جانبي.
 اشتقت أن أشم رائحة مأكولاتٍ شعبية تنبعث من قدر طينته من بلدي،  تفننت في صنعها امرأة جبلية وشمها من عمق بلدي ..
اشتقت يا بلدي أن أمتطي السيارة و أمشي على ضوء القمر،  و أقطع جبل الشفة في عمق الليل ، و لا أسمع غير حفيف الشجر ، و لا يوقفني غيرُ منظر قردٍ أليف لا يريد سوى حباتٍ من الكاوكاو أو قطعة حلوى ليأخذها ببراءة و ينصرف.
اشتقت أن ألبس برنوسي المسعدي الأصيل ، و أمتطي جواد جدي و أطارد غزالا صحراويا يجري مثلما الريح تهب في بلدي ..
اشتقت أن أسافر في ربوع وطني ، و أجوب شوارع الباهية،  و أطل من لوريط التلمسانية الشاهقة وأشم رائحة الشواء و هي تنبعث من بالقرب من منابعها الصافية ..
اشتقت أن أرحل شرقا إلى أوراس الشموخ،  أو إلى أبي طالب،  أو إلى الزيبان،  أو إلى البابور، أو إلى القالة و أشاهد بحيرتها الصافية و عصافيرها الجميلة ،و أصفوَ إلى نفسي وأغتسل من كل الذي علق بي من أدران هذا الزمن القاسي !
اشتقت أن أقصد جرجرة حيث البياض و الصفاء ، اشتقت أن أستل صنارتي و أستند إلى صخرة بزيغواط بجاية ، و أتذوق حبة زيتون تازمالت .
اشتقت أن أسافر جنوبا لأتسلق نخلة صحراوية سامقة شامخة و أقطف تمرة « تقهمني « عن كل ثمار هذا العالم .
اشتقت أن اصطحب أطفالي و فلذات أكبادي نحو غابة مظلة لأبعدهم عن حر الشمس الحارقة .
اليوم و في زمن الحجر الكوروني بات يسكنُنِي شوقٌ آخر و تنْتابُنِي مشاعرُ أخرى.
لم يكن أحد يتوقع أن يفاجئنا هذا الزمن الكوروني ، خصوصا في هذا العصر الذي غزا فيه الإنسان السماء بما منحه الله من عقل و ذكاء ، حيث وصل إلى القمر قبل خمسين عاما وصنع أسلحة تفوق سرعة الصوت ، و قهر فيه الطبُ مختلف الأمراض والأوبئة.
لم يكن للكائن البشري الذي حقق كل هذه الإنجازات العلمية و الطبية أن يتخيل أن مجرد فيروسات ــ هل يمكن أن نسميها بالشيطانية ــ  و لا تُرى بالعين المجردة تتمكنُ من سجن ملايير البشر في بيوتهم في مختلف بقاع الكرة الأرضية بعد أن انتقل هذا الفيروس بسرعة فاقت كل سرعة، و انتقلت من قارة إلى قارة و من بلد إلى بلد دون أن ترصده لا الرادارات و لا الأقمار الصناعية التي ترى ما فوق الأرض و ما تحتها ،و لم تتمكن من رؤيته و لا ملاحظته لا مخابرات الدول الغربية و على رأسها المخابرات الأمريكية التي يقال إنها تستطيع التسلل حتى إلى غرف البعض و ترصد سكناتهم و حركاتهم و تحركاتهم ، ثم راح هذا الفيروس يفتك بكل مَنْ يقترب منه أو يجده في طريقه خارج بيته ، بل و قد يقتل كذلك حتى مَنْ لم يبرح عتبة بيته لمجرد أن يزوره قريب أو صديق تكون هذه الكورونا اللعينة قد تسربت خفية في جسده عبر أنفه أو من فمه لمجرد الاقتراب منه من خلال سعال أو رذاذ عطسة واحدة .
كم أتشوق و معي كل مَنْ يشاطرني نفس المشاعر و الأحاسيس الجميلة أن يتمكن العلماء والمخبريون و الأطباء في العالم كيفما كان لونهم و جنسهم من التصدي لهذا المجرم الخطير الموصوف بالكورونا أو كوفيد 19، و يقبضون روحه الشريرة التي سرقت منَّا أرواحَ أحبة و أصدقاء و أناسا نشترك معهم في حب الحياةِ و السمو الإنساني،  و هم ما يزالون في أوج عطائهم الفكري  و العلمي كما كان عليه الحال مع بعض الأطباء الذين كانوا يسارعون الزمن لإيجاد دواء أو مصل لقتل هذا الفيروس و إيقاف زحفه .
 صحيح قد نختلف مع بعض الذين وصل إليهم هذا الوباء في نظرتنا لمختلف المصالح والأفكار، لكننا مع ذلك نحب لهم الخير ، و نكره أن يصيبهم هذا الفيروس الخفي ، لأن شيمتنا أن نحب لا أن نكره .
فكم أتمنى و أتشوق أن تعود البسمة لأطفالنا ، و يزول اليأس و القنوط من كبار المسنين عندنا أو في أية جهة من العالم ، و يشعر الناس الطيبون أن الدنيا ما تزال بخير، و أن الشرور التي سكنت بعض النفوس هي حالاتٌ قليلة لا تمت للغالبية الساحقة من أبناء الكرة الأرضية بصلة .
بل كم أتشوق أن تعود للناس كل الناس مشاعر الأمن و الاطمئنان على حياتهم إن زارهم ، قريب أو التقوا بصديق ، فتحدث بينهم من جديد تلك الحميمية الجميلة  التي كانت ، فيعانق بعضُهم البعض الآخر ، و يزول الشك لديهم و لدينا جميعا بأن كل منْ يأتي زائرا ليس بحامل معه للموت أو لفيروس الكورونا اللعينة .
 إنني أتشوق أكثر في نفس الوقت أن ينهض بلدي عملاقًا كبيرا بعد هذه الجائحة،  و هو أكثر عزيمةً و إصرارًا على أن يكون له موطئُ قدم راسخة في هذا العالم ، كل ذلك برؤية مسؤوليه و مسيريه كيفما كان موقعهم مسنودين في ذلك بأفكار علمائه و باحثيه و مثقفيه وجامعييه، كل في تخصصه و مجال عمله و علمه و معارفه ، و بصفوة المستشارين والمحيطين بالمسؤولين الذين يُختارون على أساس الكفاءة و الخبرة ، و ليس على أساس الولاء أو الجهة.
و لئن حرَّك الحراك الشعبي ثم هذه الكورونا بقوة كثيرًا من الأشياء الساكنة في بلدي ،  وبيَّن كم أن هذا الشعب عظيم لا تقهره الأزمات و لا تحد عزيمةَ و إرادةَ رجاله و نسائه الكوارث و الأزمات مهما كانت طبيعتها، فإن شوقي و حلمي يكبر كل يوم أن نرى بعيوننا جزائر جديدة فعلا تتطلع إلى آفاق بعيدة برؤية علمية ، لا بشعارات سياسية بليدة  عف عنها الزمن .
فروح التضامن التي أظهرها شعبنا و التي هي مِن أرقى الخصال التي ظلت تميز هذا الشعب على امتداد القرون و في مختلف الأزمات و المحن ، واحدةٌ من عناصر هذا الأمل الذي يجعلني أشعر ، بل و أزداد شوقا، بل اقتناعا و يقينا أن أرى جزائر جديدة تبرز عملاقة للعيان ، غير تلك الجزائر التي كانت ثائرة على الدوام ، و مع ذلك تم تنويمها مغناطيسيا بخطابات جوفاء و كلام معسول بعد أن عبثتْ بها العصابة ، و كادت تفسد فيها أخلاق الناس بعد أن فسُدت أخلاق بعض مسؤولي زمن ما قبل الحراك و الكورونا .
 عندما نعود للتاريخ الذي هو أكبر معلم يأخذ منه الناس و خاصة المسؤولون منهم  الدروس و العبر ليبنوا على ضوء ذلك مستقبل بلدانهم ، فإن قراءة تاريخ بلادنا خلال الحقبة الاستعمارية خصوصا علمتنا أن القمع و القهر الجماعي الذي مورس ضد شعبنا من طرف الاستعمار لم يقهر إرادة شعبنا في وضع حد للاحتلال .
 فالمجاعات التي ضربت شعبنا و من بينها مجاعة عامي 1867  و 1868 و التي حصدت أرواح أكثر من 450 ألف مواطن جزائري بسبب السياسة الاستعمارية الناتجة عن نزع أراضي الجزائريين لصالح المعمرين و سياسة التفقير و التجويع التي مورست ضد شعبنا لم تقتل أبدا روح المقاومة و التحدي لدى هذا الشعب الذي كان ينهض من جديد ويخوض المقاومة تلو المقاومة كلما تعرض للقتل و التنكيل و كلما تجرع المحن.
ثم إن مختلف الأمراض و الأوبئة التي فتكت بالآلاف من أبناء هذا الشعب خلال فترة الاحتلال لم تزد هذا الشعب إلا تشبثا بالحياة و إذكاء روح المقاومة لديه.
و لذلك فإن جائحة كورونا اليوم تجعلني أتشوق أن أرى بلدي ينهض في شتى المجالات، اقتصاديا و علميا و ثقافيا ، و في مجال الطب لتكون الجزائر ليس رائدة فقط ، بل واحدة من القوى التي تساهم في صُنع خارطة العالم الجديد و في القرار الدولي و تسهم في صناعة الحدث العالمي و في تصحيح المسارات الخاطئة القائمة على مظاهر القوة و العجرفة العسكرية .
إن روح المقاومة و الشجاعة التي أظهرها أطباؤنا و السلك الطبي عموما في بلادنا لمقاومة جائحة الكورونا تجعلني اليوم أتطلع أن أرى أن الصحة التي كانت توَصف في بلادنا قبل جائحة كورونا بـ «المريضة» ليست كذلك ، بل إنها قد تكون مستقبلا في حالة جيدة و تبعث على التفاؤل في أن تصبح بلادنا مركز ثقل صحي على الأقل بالنسبة للقارة الإفريقية و العديد من البلدان العربية .
فأطباؤنا الذين يملئون كثيرا من مستشفيات العالم و يُظهرون كفاءة عالية في شتى التخصصات بإمكانهم أن يجعلوا بلدنا لا يخاف من أية جائحة أو مرض عارض في المستقبل المنظور أو البعيد ، و يجعل كبار المسؤولين في بلدنا يخجلون مستقبلا أن يطلبوا رخصة أو منحة مالية للعلاج خارج الوطن مثلما كانوا يتهافتون من قبلُ على مستشفيات الغرب و خاصة فرنسا و يستهلكون أموالا طائلة من خزينة الدولة .
فقد بات بناء مستشفيات بحجم هذا البلد ضرورة ملحة و حاجة أساسية للاستثمار في هذا القطاع المتعلق بحياة الإنسان و الجالب للثروة.
إن الوصول إلى ذلك الهدف في المجال الصحي و مختلف المجالات الأخرى مرهون بعدة عوامل أبرزها ضرورة إسناد المسؤوليات لمن يستحقها ، و ليس لمن بات يخفي ضعفه في الرؤية والتسيير متسترا وراء شعار : «بتوجيهات و تعليمات من الرئيس» التي كان يختبئ وراءها بعض المسؤولين لإخفاء ضعفهم على التسيير، و هو الأمر الذي تفطن له الرئيس  الذي دعا إلى الكف عن مثل هذه الشعارات التي كان بعض المحيطين بالرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة رحمه الله يتفننون فيها ، بحيث كانت الإذاعة التونسية تبث كل يوم برنامجا صباحيا تحت شعار من توجيهات الرئيس .
و يُروى أن مذيعا تونسيا كان يحاور ذات يوم أحد رؤساء بلديات تونس ، و راح المذيع يكرر كل مرة و هو يخاطب رئيس تلك البلدية السيد الرئيس ، السيد الرئيس .
فإذا بالرئيس بورقيبة يتصل بنفسه بذلك المذيع في بث مباشر و يقول له: اسمع يا ابني لا يوجد في تونس سوى رئيس واحد هو أنا الرئيس بورقيبة.
و تم تغيير منذ ذلك  اليوم تغيير عبارة الرئيس لتبقى حكرا على الرئيس بورقيبة وحده دون منافس إلى أن أسقطه الجنرال بن علي في السابع من نوفمبر عام 1987 قبل أن يطاح به هو الآخر في 11 يناير عام 2011!!  .
فكم أتشوق أن أرى مختلف المسؤوليات لا تمنح في بلدي حسب الأهواء أو الجهة أو التدخلات كيفما كان شكلها ، بل تفتكها الكفاءات و المسيرون الذين أثبتوا قدرتهم و جدارتهم على التسيير و على نجاعة سير المؤسسات التي عملوا فيها .
كم أتطلع أن أرى الثقافة التي هي روح أي بلد تتحول في بلدي إلى عنصر للأفكار الاستشرافية الجميلة و الإبداع ،  و أن تسهم في الدخل الوطني ،  و أن لا تبقى مجرد عمليات ترفيه كما يتصورها بعض الوافدين على الثقافة .
 كم أتمنى أن أرى الثقافة يتولاها عمالقة الرجال و النساء ممن يمتلكون زادا كبيرا في الأفكار و التسيير لتكون مركز إشعاع فكري و ثقافي .
كم أتشوق أن تصبح الصناعة و الزراعة و السياحة بدائل حقيقية لجزائر ما بعد كورونا وما بعد ريع المحروقات .
يزداد شوقي أن تكبر العدالة فعلا في عيون الناس البسطاء، فيكون القاضي هو الوحيد الذي يهابه أكبر مسؤول و أبسط مسؤول في البلد.
يزداد شوقي و تكبر آمالي أن أرى جزائر جديدة لما بعد كورونا تكبر بأفكار عظمائها في مختلف المواقع ليعود الاطمئنان للنفوس و يتوقف الشباب عن الحرقة ، و يحس الناس جميعا أن هذا الوطن ينهض كالمارد كلما حلت به كارثة أو مسه وباء كيفما كان شكله .
و أن هذا الوطن تنطبق عليه مقولة الولي الصالح عبد الرحمن الثعالبي عندما قال :  
   إنّ الجزائر في أحوالها عجب                ولا يدوم بها للناس مكروهُ
  ما حلّ عُسرٌ بها أو ضاقَ مُتَّسع               إلا ويسرٌ من الرحمن يتلوهُ
 
*في شهر جانفي 2005 دُعيت لإلقاء محاضرة في المكتبة الوطنية من طرف الدكتور أمين الزاوي الذي كان مديرا عاما للمكتبة الوطنية حول تجربتي الصحفية و السياسية ، و كان من بين الحضور عدة شخصيات وطنية و فكرية ، من بينهم الراحلان الأستاذ عبد الحميد مهري و الهادي لخذيري رحمهما الله و السيدة زهور ونيسي أطال الله عمرها ، و الأستاذ الطاهر بن عائشة رحمه الله الذي قام بتقديمي للحضور.
و قد طلبت من الحضور عقب تلك المحاضرة أن اقرأ لهم واحدا من مقالاتي عن مرحلة التسعينيات، وبعد أن قرأت مقال : « كم اشتقت « ، لاحظت أن الحضور تأثروا لمحتوى ذلك المقال تأثرا شديدا .